لقد انتشرت في العصور الإسلامية الوسطى مشاهد ومزارات بُنيت على الرؤيا في المنام، بمعنى أن يقوم شخص أو رجل صالح ببناء مشهد أو مزار في الموضع الذي يرى فيه في المنام بعض الأئمة أو الأنبياء أو الأولياء، وقد يُؤمَر في رؤياه ببناء مشهد في مكان محدّد. ومدينة حلب من المدن التي ظهر فيها عدد لا بأس به من مشاهد الرؤيا، حيث أشار مؤرخو حلب الكبار، ولا سيما ابن شدّاد (ت 684هـ)، إلى عدد من هذه المشاهد وتفاصيل ظهورها.
ومن أشهر مشاهد الرؤيا في حلب، "مشهد قرنبيا" في شرقي المدينة، بينها وبين قرية النيرب. وقيل أنه كان يُعرف قديماً بمقرّ الأنبياء، فحرّفته العامة بقرنبيا. وقد أنشأ هذا المشهد قسيم الدولة آق سُنْقُر صاحب حلب في العهد السلجوقي. ونقل ابن شدّاد في تاريخه (الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة، تحقيق: دومينيك سورديل، ج 1، ق 1، ص 46-47) عن المؤرخ ابن أبي طي (ت 630هـ) في سبب بناء قسيم الدولة لهذا المشهد:
أن شيخاً من أهل منبج رأى في حلب عدة مرات كأن علي بن أبي طالب (عليه السلام) يصلّي فيه وأنه قال: قل لآق سنقر يبني على قرنبيا مشهداً. فقال الشيخ لعلي (عليه السلام): ما علامة ذلك؟ فقال: أن تكشف الأرض فإنها أرض معمولة بفصّ المرمر والرخام وفيها محراب مؤسّس وقبر على جانب المحراب فيه بعض ولدي. فلمّا تكرّرت هذه الرؤيا على الشيخ شاور جماعةً من أصحابه فأشاروا عليه أن يتعرّض له فخرج إليه في جماعة فلما رآهم أنفذ إليهم حاجبه وسألهم ما حاجاتهم فأخبروه برؤيا الشيخ فأمر وزيره بكشف الموضع فكشفه ورأى الأمارات على ما حكاه من الرؤيا. فبناه ووقف عليه وقفاً وكان يتردّد إليه.

وذكر ابن شداد قولاً آخر في سبب بناء سهذا المشهد، وهو أنه «رُؤي النبي (ص) يصلّي فيه وجماعة من الأنبياء مراراً.» أما المؤرخ ابن العديم (ت 660هـ) فاكتفى بالقول: «قيل إنه رؤي النبي (ص) يصلي فيه، فعمره قسيم الدولة آق سنقر ووقف عليه وقفاً.» (بغية الطلب في تاريخ حلب، تحقيق: سهيل زكار، ج 1، ص 464)
ومن مشاهد الرؤيا أيضاً مشهد للإمام علي (عليه السلام) بظاهر باب الجنان ملاصق له، ذكر ابن شداد نقلاً عن ابن أبي طي أن هذا المشهد ظهر في سنة 522 هـ / 1128 م، وتفصيل ذلك أن موقع المشهد
كان مكان يُباع فيه الخمر واتفق أن بعض أهل حلب رأى في النوم وكان مريضاً بحمّى من مدة طويلة كأنه في ذلك المكان وكأن رجلاً يقول له: أي شيء تشكو؟ فقال: الحمّى. فمدّ يده إلى تراب من ذلك المكان وقال: خذه وعلّقه عليك فإنك تبرأ وقل للناس يعمّرون هاهنا مشهداً فقال: يا مولاي لا يقبلون مني. فقال: يحفرون هاهنا فإنهم يجدون صخرةً جميع ما حولها من التراب يكون فيه رائحة المسك. فقال له: ومن أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب. فاستيقظ الرجل وقد زالت الحمّى عنه. فحدّث لأهله بذلك وأصبح وخرج إلى ذلك المكان ووقف يحدّث الناس وكان حلب رجل يقال له شُقَيْر السوادي يحمل السواد إلى البساتين وكان فيمن حضر فنبشوا المكان فكان التراب يخرج كأنه المسك فتطيّبت به الناس وتاب شُقَيْر من أمور كان يعتمدها من الفساد وتولّى عمارة المكان. (الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة، ج 1، ق 1، ص 47-48)

ومن المشاهد الأخرى للإمام علي (عليه السلام)، مشهد بشاطئ نهر قويق الغربي، قيل إن بانيه من أولاد العُلَيقي بمنام رآه، وكان موضعه حانةً، فلما بُني باعد الله بين بقعته وبينها وطهرها؛ كما ذكر ابن شداد (الأعلاق الخطيرة ج 1، ق 1، ص 53)؛ ومشهد آخر في سوق الحدّادين، رؤي فيه الإمام (عليه السلام) في النوم يصلّي فيه مراراً ويديم التردّد إليه، وهو موضع يستجاب فيه الدعاء، كما ذكر ابن شداد أيضاً (الأعلاق الخطيرة، ج 1، ق 1، ص 42). وقد أشار الشيخ محمد أبو الوفاء بن محمد الرفاعي (1179-1264 هـ / 1765-1847 م) في منظومته التي نظمها في مزارات حلب وقبور أوليائها إلى هذا الموضع باسم جامع الحدّادين، وذلك خلال الأبيات التالية:
والعالم العلامة الحدّادي
الحنفي بركة العبادِ
وهو الإمام شارح القدوري
وعمدة المذهب في التحريرِ
ضريحه في جامع الحدّادين
يجاب عنده دعاء الداعين
وكم رأوا فيه الإمام الغالبْ
علي إمامَ الشرق والمغاربْ
(انظُر: منظومة "أولياء حلب" للشيخ وفا الرفاعي، تحقيق: فردينان توتل اليسوعي، مجلة المشرق، السنة الثامنة والثلاثون (1940)، تشرين الأول وكانون الأول، ص 402)
وقد أشار ابن شدّاد أيضاً إلى المشهد الأحمر في رأس جبل جوشن، حيث رؤيت فيه السيدة فاطمة الزهراء في المنام، ووصفه بما يلي: «يقصده أهل حلب في مهماتهم ويدعون فيه لكشف ما نزل بهم فيُستجاب لهم. ورأى بعض الصالحين في النوم فاطمة بنت رسول الله (ص) تصلّي في البيت الذي في الجدار القبلي منه. وهذا البيت هو الذي يُزار ويُقصد. وبنى بالمشهد بعض أهل زماني قبةً جليلةً عالية البناء وبنى فيه صهريجاً.» (الأعلاق الخطيرة ج 1، ق 1، ص 52-53)
كما أشار أيضاً إلى مشهد الثلج على "باب أربعين" (من أبواب مدينة حلب)، قيل إن عمر بن الخطاب رؤي يصلّي فيه. (الأعلاق الخطيرة، ج 1، ق 1، ص 48)
ومن مشاهد الرؤيا في حلب، "مشهد الأنصاري" في قبلي جبل جوشن في طرف الياروقية، فقد ذكر ابن العديم في تاريخه (بغية الطلب، ج 1، ص 465) نقلاً عن والده أن امرأة من نساء أمراء الياروقية رأت في المنام قائلاً يقول: هاهنا قبر الأنصاري صاحب رسول الله (ص)، فنبشوا الموضع فوجدوا به قبراً، فبنوا عليه هذا المشهد وجعلوا عليه ضريحاً. وأشار إليه علي بن أبي بكر الهروي (ت 611 هـ) ضمن مزارات حلب حيث قال: «وبها قبر عبد الله الأنصاري كما ذكروا». (الإشارات إلى معرفة الزيارات، تحقيق: جانين سورديل ـ طومين، ص 4). وهذا المشهد لا يزال قائماً في حي الأنصاري بحلب، وهو عبارة عن مسجد أثري واسع، فيه ضريح الأنصاري المذكور، إلا أنه يُنسب اليوم إلى سعد الأنصاري ابن أيوب، وبالقرب من المسجد ثلاثة مدافن لبعض أمراء حلب في أيام المماليك.
وفي حلب كانت توجد مواضع رُؤي فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام، ظهرت في فترة متأخرة، منها موضع في القسم الشرقي لمصلّى الجامع الكبير بحلب، أشار إليه سبط ابن العجمي (ت 884 هـ)، وذكر أنه «رؤي النبي (ص) يصلي فيه كثيراً، وهو الآن دكة مرتفعة عن أرض الجامع». (كنوز الذهب في تاريخ حلب، ج 1، ص 210)
كما أشار الشيخ محمد أبو الوفاء الرفاعي في منظومته إلى موضع في جامع الأطروش شرقي قلعة حلب، قيل أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رُؤِي فيه، وذلك خلال الأبيات التالية:
وبعقةٌ في جامع الأطروشِ
مشرقةٌ بنورها المرشوشِ
من قبلةٍ في جهةٍ للشرقِ
سناؤها يُضيء مثلَ البرقِ
رُئِيَ فيها سيّد الوجودِ
محمدٌ صاحبُ فيض الجودِ
وحوله الدرابزونُ معقودْ
تكرمةً لذي المقام المحمودْ
(انظُر: منظومة "أولياء حلب" للشيخ وفا الرفاعي، ص ۴۰۹)
دوشنبه ۲۸ مهر ۱۳۹۳ ساعت ۲۲:۲۵